الوالد السوي أشد حرصا على حال ولده ومآله، دنيا وآخرة، من حرص الولد على والده، والوالد هنا طبعا تشمل الوالدين، بل وصل الأمر ببعض الحكماء، بحسن التمثيل الموجز، "أبنائنا فلذات أكبادنا"، قال تعالى في سورة لقمان: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾.
ولهذا دعوت اختصارا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الأيام المباركات من رمضان سنة 1444 هجرية، الموافقة لسنة 2023 ميلادية، وقبل ذلك في السفر والحضر، حين علمت باعتزامه السفر من فرنسا إلى حائط أمريكا، وبعد قرابة عشرة أيام، بشرني هذا المساء بدخوله الأراضي الأمريكية، معززا مكرما، عبر ذلك الحائط المهيب المسالم، الذي يمثل نبل الولايات المتحدة الأمريكية ونظمها القانونية المعمول بها في جانب محلي، وتكريس ازدواجية المعايير والبرغماتية المحضة، عندما يتعلق الأمر بخارج الحدود.
فالحمد لله أولا واخيرا أن استجاب ربي الكريم دعائي، حين استيقظ وحين أجلس وحين أقوم، وحين أتقلب، وفي الهزع الأخير من الليل، ووقت انبلاج الصبح، وحين أسافر وحين أحط رحلي، مع ما أعاني من بعض الأمراض البسيطة المزمنة، التي أعانني الله عليها، وأحمده وأطلبه أن يزيد لي، ولسائر المسلمين والمسلمات، عافية وحفظا ورعاية.
لكن كلما تذكرت شبح ولدي، محمد، حفظه الله ورعاه وسائر إخوته وأخواته، وسائر عيالنا، وحوزتنا، والمسلمين أجمعين، يلهج لساني بذلك الدعاء البليغ، الذي ألهمته اختصارا، وأجابني فيه مولاي، الله جل جلاله، وما خاب ظني، وما خاب ظن من استمسك بعروة الدعاء، وذلك حين يلح ويبكي ويتضرع، حتى لو اهتزت جميع جزئيات كيانه الضعيف، وأعني طبعا الداعي، الراجي، الموقن باستجابة الدعاء، وربنا يقول " أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ".
"اللهم كبدي"... "اللهم كبدي"... "اللهم كبدي"... "اللهم كبدي"... "اللهم كبدي"...
وفعلا هذا المساء وبعد أن احتجزته ساعات قليلة، القوات الأمنية الحدودية الأمريكية، أفرجوا عنه، فرن الهاتف، وكنت منهكا، ما بين الفندق والمسجد، في باحة الحرم المدني، مساء الثلاثاء الأغر، 13 رمضان 1444 هجرية، الموافق 04-04-2023 ميلادية، سمعت صوته فانفتحت في نفسي مغلقات وهموم، وانفرجت وذهبت سدى، غير مأسوف عليها.
الحديث ذو شجون، ولله في خلقه شؤون، فتشبثوا بعروة الإسلام واتكلوا على الله وحده، ولعلي صاحب شأن، إن شاء الله، قدر الله لي أن عشت أحيانا، في ظلمات السجون، داخليا وخارجيا، اختبارا من الله بسبب ضريبة الكلمة الحرة، الخالصة لوجه الله الكريم، ولعلي تقلبت في السرير مريضا وصبرت، لله الحمد والمنة، في مستشفيات محلية، وفي بعض أسرة اسطنبول، أو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بشكل عابر، إبان عمرتي السنة الماضية 1443 هجرية، حين وعكت قليلا، لله الحمد والمنة، واضجعت على جنبي محمولا على تلك السيارة المسعفة بحق، لله الحمد والمنة، ووصلت لمستشفى الملك فهد، غير بعيد من مسجد جدي، خير الخلق طرا، خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
خرجت فرحا بفضل الله وبشرى الشفاء، وعدم ظهور مرض ذي بال، وذلك بعد صلاة المغرب حينها، من إحدى أيام رمضان 1443 هجرية، الموافق سنة 2023 ميلادية، لكن مع رحلة ولدي الطويلة نسبيا، ما بين دول عدة، تأثرت لله الحمد نسبيا، وانفرجت أسرة قلبي هذا المساء، وذهب هم صدري، لله الحمد و المنة، والتحدث بالنعمة شكر، بعد أن تجاوز ولدي تلك المفازات.
الحمد لله أولا وأخيرا.
ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، ولقد مر في طريقه بفرنسا، ورغم ماضيها معنا، معشر الأفارقة وبعض العرب، ورغم استنزافها لخيراتنا وأمتنا، على نطاق واسع، إلا أن الفرنسيين كانوا في الأغلب الأعم أخشن معالمة، مع بعض المهاجرين، خلاف أمريكا، خصوصا في هذه الفترة، وأمريكا مهما كانت شناعة وبشاعة جرائمها في الشرق الأوسط، وغيره، خصوصا في فلسطين السليبة، من خلال تحالفها مع الكيان الصهيوني المحتل الغاشم الظلوم، إلا أنها في سياق تكريس المعايير المزدوجة، عادلة وانسانية إلى حد معتبر مع الوافدين، من مختلف الجنسيات العربية والإفريقية، بوجه خاص.
فشكرا باختصار للولايات المتحدة الأمريكية العظيمة المتنوعة الأوجه، على هذا الجانب من الإنسانية الرفيعة، ومحاولة ربما رد بعض الجميل، لإفريقيا التليدة الثرية، تاريخا وطبيعة.
فمن قلب قارتنا جاء الرجال والنساء، وشيدوا حضارات ما زالت تشهد بالكثير من المظالم، واستغلال الإنسان الأبيض الأوروبي الأصل، لأخيه الإنسان المستورد، عنوة، عبر بوابات جزيرة "كوري" المعتمة، في السنغال وغيره، ما بين ضفتي المحيط الأطلسي، الذي سنظل نسمع أنينه وشهاداته المفزعة.
لكن اصبروا قليلا معشر الأمريكيين، فهذا مجرد استذكارا للتنبيه، وليس تنبيها البتة للانتقام، فأولادنا فلذات أكبادنا، وإنما خرجوا مهاجرين مسالمين، يبحثون عن لغمة عيش كريم بعد أن لفظتهم تراكمات التسيير المافيوي الاستبدادي، الأناني الضيق الأفق.
اللهم أهد مجتمعاتنا للصبر على الظلم، وخصوصا ظلم بني جلدتهم من المتنفذين من مختلف المستويات، اللهم أهد شبابنا للتمسك بدينه وطلب معاشه بكرامة، دون تنازل عن الهوية، ودون شطط، ودون مخالفة لقوانين الدولة المضيفة.
والله أدعو أن ينتبه القائمون على الأمر في الجمهورية الإسلامية الموريتانية، قبل فوات الأوان، فربما تكون هذه الهجرات الشبابية وبعمر الزهور، ومن مختلف المشارب، والمستويات العمرية والعرقية والطبقية، مقدمة لتغيير سلمي جذري في موريتانيا، وربما بعد انقضاء عهدتي صاحب الفخامة، محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني، سدد الله خطاه، وهداه للتأمل بتجرد وعمق في بحر هذه السطور الآنفة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
حفظ الله موريتانيا، وحفظ فلذات أكبادنا أينما حلوا.
"اللهم كبدي"... "اللهم كبدي"... "اللهم كبدي"... "اللهم كبدي".